الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فيض الباري شرح صحيح البخاري ***
واعلم أن هذه الترجمة لها ارتباط بما تأتي ترجمة أخرى بعدها، وهي: باب زيادة الإيمان ونقصانه... إلخ. وأخرج المصنفُ رحمه الله تعالى تحتها حديثَ أنس رضي الله عنه بمعنى حديث الباب، ثم عبّر بالتفاضل ههنا، والزيادة هناك. وقوله: (تفاضل أهل الإيمان في الأعمال) ههنا على حد قولهم: تفاضل أهل العلم في المعاني والفقه، فلا يردُ أن العملَ إذا كان عينَ الإيمان عنده وداخلاً فيه، كان مآلُ الترجمة إلى تفاضل الإيمان في الإيمان، والمفاضلة بين الشيءِ ونفسه محال، فما معنى التفاضل في العمل؟ فإن الفصاحةَ أيضاً داخلةٌ في العلم، ومع ذلك صح قولهم: تفاضل أهل العلم في الفصاحة، فكذلك صح إطلاق التفاضل ههنا أيضاً، وإن كان العملُ داخلاً في الإيمان، ثم إن لفظ التفاضل يستعمل فيما بين الأنبياء، وسور القرآن، ولا يقال فيها: إن هذه زائدة وتلك ناقصة، وكذلك في الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام أيضاً، ولذا قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} (البقرة: 253) ولم يقل: زِدْنا لإبهامه التنقيصَ في الجانب الآخر، والأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام ليس فيهم دُون ونقص، بل لم أر لفظَ النقصان في الإيمان أيضاً، إلا في آثار عند السفاريني. والحاصل: أن التفاضل في الأشخاص، والزيادة والنقصان في المعاني، فالمصنف رحمه الله تعالى نَظَرَ في هذه الترجمة إلى حال العاملين، فوضع التفاضلَ بينهم. وفيما يأتي نظر إلى نفس الإيمان، فوضع لفظَ الزيادة والنقصان؛ لأنهما يُستعملان في المعاني، ثم أقول في تمايز الترجمتين: إنه تعرض في هذه الترجمة إلى تفاضل الأعمال، وإن كانوا في الإيمان سواء، وفي الترجمة التالية إلى زيادة نفس الإيمان، سواء كانوا متفاضلين في الأعمال أم لا. أو بعبارة أخرى: إن الكلام في هذه الترجمة في الموصوفين، أي المؤمنين بحسب الأعمال، وفي الترجمة الأخرى في نفس صفتهم، وهي الإيمان دون الموصوفين، وإن كان ينجز أحدهما إلى الآخر. وهذا الكلام على مختارِ الشارحين، أما عندي فتلك الترجمة من أشكل التراجم من وجوه. الأول: أن المصنف رحمه الله فرق في الترجمة على الحديثين، فوضعَ ترجمةَ التفاضل على حديث أبي سعيد رضي الله عنه، وزيادة الإيمان على حديث أنس رضي الله عنه، مع اتحادِ مادة الحديثين، وإن كانا متعددين على اصطلاح المحدثين، فإن وحدة الحديث وتعدده يدورُ عندهم على وحدَةِ الصحابي وتعددهِ، لا على اتحاد مضمون الحديث واختلافه، وبهذا المعنى قالوا: إن في مسند أحمد رضي الله عنه ثلاثين ألف حديث. والثاني: أنه لا ذكر للعملِ في حديث أبي سعيد رضي الله عنه بل فيه ذكر الإيمان فقط، كما يدل عليه قوله: «أخرِجُوا من كَانَ في قلبه حبةُ خردلٍ من إيمان» ففيه ذكر مراتبِ الإيمان فقط، بخلاف حديث أنس رضي الله عنه، فإن فيه ذكرُ الخيرِ، وهو العمل، ولفظه: «يخرجُ من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزنُ شعيرةٍ من خيرٍ» فينبغي أن ينعكس حالُ التراجم، ويترجم على حديث أبي سعيد بزيادة الإيمان ونقصانه، لعدم ذكر الأعمال فيه، وعلى حديث أنس رضي الله تعالى عنه بالتفاضل في العمل، لمجيء ذكر العمل فيه، مع أن المصنف رحمه الله تعالى عكس في التراجم. والثالث: أن اللفظين إذا وردا في الحديثين، فلم أخرج في الأصل لفظ الإيمان في حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه والخيرَ في حديث أنس رضي الله تعالى عنه ولم لم يخرج في حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه لفظَ الخير في الأصل، والإيمان في المتابعة. وحاصله: أنه أخرج لفظ الإيمان والخيرِ في الحديثين، وجعل أحدهما أصلاً، والآخر متابعاً، فلم لم يعكس الأمر؟ ولم يجعل التابع أصلاً؟ والأصلُ تابعاً؟ والرابع: أن مسألة الزيادة والنقصان قد كانت مضت مرة، فلم أعادَها مرة أخرى، والشارحان لم يتكلما فيه إلا كلاماً سطحياً، مع أن المقام يحتاجُ إلى إيضاح وبيان وإتمام والحافظ ابن تيمية رحمه الله وإن تكلم في كتابه على مسألة الإيمان مفصلاً، لكنه لم يلتفت فيه إلى حل تراجم البخاري، ولم يكن ذلك موضوعه، ولو فعل لأحسن. فأقول: أما الجواب عن الرابع فإنه سهل، وهو أن الترجمةَ السابقة لم تكن في مسألة الزيادة والنقصان قصداً، بل كانت استطراداً، ولذا لم يُخْرِّج لها حديثاً هناك، وههنا قصدي، فلذا أستدل عليها على نهج كتابه. وأما الجواب عن الثالث: فهو أنه من علوم المصنف رحمه الله تعالى ولا ندري ما وجهه. وأما الجواب عن الأول، والثاني، فلا يتضح إلا بعد المراجعة إلى حديثهما عند مسلم، وسأذكره، ولكن أذكر أولاً جوابَ الحافظ، قال الحافظ رحمه الله تعالى في الجواب عن الأول، والثاني، ما حاصله: إن الحديثين لما كان صالحين لزيادة الإيمان ونقصانه، والتفاضل في الأعمال، ترجم بكل من الاحتمالين، وخصَّ حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه بالتفاضل في الأعمال؛ لأنه ليس في سياقِهِ ذكرُ التفاوت بين مراتبِ الإيمان، فلم تناسب به ترجمةُ الزيادة والنقصان، بخلاف حديث أنس رضي الله تعالى عنه ففيه التفاوت في الإيمان القائم بالقلب، من وزن الشعيرة، والبُرَّة، والذرة. وأجاب عن الرابع: أن الزيادة والنقصان فيما مر كان في الإيمان، وأراد ههنا أن يتكلم في زيادة نقس التصديق ونقصانه. قلت: ما ذكره الحافظ رحمه الله تعالى لا يغني شيئاً؛ لأن المصنف رحمه الله تعالى لم يتكلم في زيادة الإيمان باعتبارِ نفسِ التصديق بحرف، وإنما اختار تركُّب الإيمان والزيادة فيه، سواء كانت من تلقاء الأجزاء، أو الأسباب، ولذا لم يقابل بين التصديق، والأعمال، ليقال: إنه أراد في حديث أنس رضي الله تعالى عنه إثبات الزيادة والنقصان في نفس التصديق، وإنما الزيادةُ والنقصان عنده باعتبار المجموع؛ فإذن توجيه الحافظ رحمه الله تعالى من باب توجيه القائلِ بما لا يرضى به قائله. وكذا جوابه عن الأول، والثاني، غير نافذ؛ لأن تفاوتَ الموزونات وذكرُ المراتب ورد في حديث أبي سعيد رحمه الله تعالى أيضاً كما هو عند مسلم، ولئن سلَّمنا أن تفاوت المراتبِ ليس في طريق المصنف رحمه الله تعالى خاصة، فلا يصح الجواب أيضاً؛ لأنه لا ذكر للأعمال في حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه عنده، كما أنه لا ذكر فيه لمراتب الإيمان، فحديثه لا يصلح لترجمة التفاضل، كما أنه لا يصلح لترجمة الزيادة والنقصان، فكيف ترجم بالتفاضل في الأعمال؛ فكلام الحافظ رحمه الله تعالى يصلح جواباً عن عدم ترجمته بالزيادة والنقصان، لا عن ترجمته بالتفاضل في الأعمال. وحينئذٍ أقول: إن البخاري رحمه الله تعالى إنما خصص حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه بالتفاضل في الأعمال لأمرين. الأول: أنه رحمه الله تعالى نظر إلى روايتهما المفصلتين: فحديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه أخرجه مسلم في «صحيحه» مفصلاً، وفيه ذكر الأعمال أيضاً. ولفظه: «يقولونَ ربنا كانوا يَصُومون مَعَنَا ويُصلُّونَ ويحُجُّون، فيقال لهم: أخْرِجُوا من عَرَفْتُم» ثم ذكر بعده مراتبَ الخير على الترتيب وفي آخره: «فيقبض الله قبضة من النار فيُخرجُ منها قوماً لم يَعْمَلوا خيراً قطُّ» وليس فيه ذكرُ الإيمان، وكلمةُ التوحيد، وإن كان معتبراً قطعاً لكونه مفروغاً عنه؛ فإن الأعمال لا عبرة لها بدون الإيمان. وأما حديث أنس رضي الله تعالى عنه فلم نجد فيه ذكر الأعمال في أحد من طرقه؛ بل فيه بعد ذكر الشفاعة «فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه»، وليس في آخره ذكرُ العمل، ولعل نظر المصنف إلى هذين المفصلين، وحينئذٍ لا شك أن الطريقَ الأول لاشتماله على ذكر الأعمال يصلح لترجمة التفاضل في الأعمال، وكذا الثاني أيضاً يصلُح لما ترجم به. والثاني: أنه أخرجَ لفظَ الإيمان في حديث أبي سعيد رضي الله عنه، وعيَّنَ مُرَاده بذكر المتابعة، «بالخير» وهو العمل، فكأنه نبَّه على أن المراد من مراتبِ الإيمان في حديث أبي سعيد رضي الله عنه، إنما هو مراتبُ الأعمال، فجعل لفظ الإيمان مفسَّراً، والخير مفسِّراً «بالكسر» وإطلاقُ الإيمانِ على الخير جائزٌ عنده، بل هو أوضحُ في مراده، وعَكَسَ في حديث أنس رضي الله تعالى عنه، فأخرج لفظَ الخير في الأصل، وعيَّنَ مراده بإخراج لفظ الإيمان في المتابعة، فلما اختلف محطُّ الفائدة في سلسلة أسبابِ النجاة في الحديثين، بكون الأعمالِ في الأول، ومراتبُ الإيمان في الثاني، وضع عليهما التراجم كما ترى، ونبَّه عليه بإخراج المتابعات، شرحاً لما في المتن. بقي أنه لم جعل الإيمانَ أصلاً والخير متابعاً في حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه، على عَكْسِ حديث أنس رضي الله تعالى عنه؟ فقد مر مني أنه من علوم المصنف رحمه الله تعالى. والحاصل: أن حديث أبي سعيد لما اشتمل على ذكر الإيمان في الأصلِ، ولا بد أن يكونَ هناك أحدٌ أهلاً للإيمان أيضاً، فأخذ منه لفظَ أهلِ الإيمان، وأخذ من متابعة الخيرِ لفظَ الأعمال، وركَّبَ من مجموعِ الأصل والمتابعة ترجمة، فقال: تفاضل أهل الإيمان في الأعمال، وفي حديث أنس رضي الله تعالى عنه جعل الخيرُ إيماناً للمتابعة، ثم أخذَ من المجموعِ ترجمة زيادة الإيمان ونقصانه، وقد مرّ مني أنه لم يكن جرى ذكرُ تلك المسألة، على طريق المترجم له، بل كان ذكرُها استطراداً، فأراد أن يذكرها على طريق المترجم له أيضاً، كما قاله الحافظ رحمه الله تعالى: هذا كلام على ترجمة المصنف رحمه الله تعالى. أما الكلام في الحديث ففيه أيضاً غموضٌ ودقة: الأول أن المراد من الخير ما هو؟ والثاني: أن الذين يخرجون في الآخر من هم؟ فاعلم أنه اتفق الشارحون على أن الخير في الحديثين زائدٌ على نفس الإيمان، لقوله تعالى: {أو كسب في إيمانِها خيراً} (الأنعام: 158) فهذا دليل واضح على أن المرادَ من الخير هو العملُ الزائدُ على الإيمان، وكذا قوله تعالى: {فمن يعملْ مثقالَ ذرةٍ خيراً يَرَه وَمَنْ يَعْمَل مِثْقَال ذرةٍ شراً يره} وأرادوا بالخير فيهما ما يعم الجوارح والقلب، قلتُ: أما الخير في حديث أبي سعيد، فالمراد به أعمال القلب فقط، كحسنِ النية، وغيره، لأن فيه ذكر الخير بعد أعمال الجوارح؛ لأن الشفعاءَ لما يخرِجُونَ مَنْ كَان عندهم أعمال الجوارح. يقولون: ربنا ما بقي فيها أحدٌ مما أمرتنا به، وهم أصحاب أعمال الجوارح. فيقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقالٌ دينار من خير فأخرِجوه إلى آخر المراتب، فلا بد أن يراد من الخير غير أعمال الجوارح، فإنهم أُخرجوا في المرة الأولى، وإنما أذن في هذه المرة فيمن كان عندهم خير على مراتبه، فلا يكون إلا من الأعمال القلبية. وأما في حديث أنس رضي الله تعالى عنه، فالمرادُ فيه من الخير هو نورُ الإيمان، وانفساحه وانبساطه، دون العملِ القلبي، بل ما هو من آثار الإيمان؛ لأنه لا ذكر في حديث أنس رضي الله تعالى عنه للأعمال أصلاً، بل فيه ذكر مراتبُ الخير من أول الأمر، مع ذكر لا إله إلا الله، فيكون قرينة على أن المرادَ منه ما هو من لواحق لا إله إلا الله، كالنماء مثلاً، ولأن في حديث أنس رضي الله تعالى عنه في بعض ألفاظه: «مثقال حبة برة أو شعيرة من إيمان»، فهذا دليل على أن تلك المراتب يجب أن تكون من الإيمان، فلذا جعلتُ الخيرَ فيه من لواحقه، وثمراته، بخلاف حديث الباب، فإنه لا ذكر فيه للإيمان في اللفظ، وإن كان معتبراً قطعاً، فلا علينا أن لا نريد فيه من الخير آثار الإيمان، مع أنه لا إيماء فيه في اللفظ إلى مراتب نفس الإيمان أيضاً. وحينئذٍ فالتفاوتُ في حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه راجع إلى أعمال القلب، والتفاوت في حديث أنس رضي الله تعالى عنه إلى ما هو من آثار كلمة الإخلاص، وعلى هذا التقرير فالأصل في حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه لفظ: الخير وإنما أخرج المصنف رحمه الله لفظَ الإيمان في الأصل، والخيرَ في المتابعة، تنبيهاً على أن المراد من الإيمان ههنا هو الخير، الذي هو من الأعمال، وعكسَ في حديث أنس رضي الله تعالى عنه للتنبيه على أن المرادَ من الخيرِ هو الإيمانُ. فإن قلت: إنك جعلت الخيرَ في حديث أنس رضي الله تعالى عنه من آثار الإيمان، وآثارُ الشيءِ غيره، فلا يثبت الزيادة والنقصان في الإيمان، وهو خلافُ ما رَامَه المصنف رحمه الله تعالى. قلت: وقد مرّ مراراً أن آثارَ الإيمان عند المصنف رحمه الله تعالى أيضاً من الإيمان، فلا بأس في تفسيره الخير بالإيمان، والتفاوتُ فيها يكون عين التفاوت في الإيمان. ثم اعلم أن حديث أنس رضي الله تعالى عنه عند مسلم مفصل ومجمل، وليس في المفصل ذكرُ كلمة الإخلاص، إلا في المرتبة الرابعة، وهم الذين يقول النبي صلى الله عليه وسلّم فيهم: «ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله، قال: ليس ذلك لك»، والمراتبُ الثلاثةِ قبلها لا ذكرَ فيها للكلمة، وهي مرادةٌ قطعاً، فإنها مذكورة في الثلاث منها في الطريق المجمل، ولفظه: «يخرجُ من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يَزِنُ شعيرة» إلى آخر المراتب وإنما حَذَفَها من المفصَّل؛ لأن المقصودَ ذكرُ ما به الفرق دون ما هو مشتركٌ في الكل، فحذفَ المشتركَ، وذكرَ المختص. وعلى هذا الفرقُ بين حديثي أبي سعيد رضي الله تعالى عنه وأنس رضي الله تعالى عنه، أما أولاً: فبذكر الأعمال في حديث أبي سعيد رضي الله عنه، دون أنس رضي الله تعالى عنه. وأما ثانياً: فبأن الخير في حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه من أعمال القلب، وفي حديث أنس رضي الله تعالى عنه من متعلَّقات لا إله إلا الله وآثاره، فالخير في حديث أنس رضي الله تعالى عنه من متعلَّقات الكلمة، لا من الأعمال القلبية، وفيه إيماءٌ إليه أيضاً دون حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه، لعدم ذكر الكلمة في حديثه في أحد من طرقِه، ولعلك علمت مما قلنا أن الخيرَ عندي زائد على الإيمان في كلا الحديثين، إلا أنه من أعمال القلب في حديث الباب، ومن متعلَّقات الإيمان في حديث أنس رضي الله عنه؛ بخلاف ما اختاره الشارحون، فإنهم جروا فيهما على طريق واحد. ثم إن المراتب في الحديثين مشتبكة، والأخيرة مشتركة، فالذين أخرِجُوا في المرة الأخيرة، في حديث الباب، هم الذين أُخْرِجُوا في حديث أنس رضي الله عنه، وهم الذين ليس عندهم عملٌ من عمل الجوارح، ولا عندهم شيءٌ من أعمال القلب، ولا من ثمراتِ الإيمان شيء، وإنما يُخْرِجُهُم أرحمُ الراحمينَ بلا عملٍ عملوه، ولا خيرٍ قدَّموه. بقي الكلامُ على الأمر الثاني: أي الذين يخرجُون بلا عمل، من هم؟ فالشيخ الأكبر رضي الله عنه لما رأى أنَّ هؤلاء عندهم التوحيد فقط، وليست عندهم الشهادةُ بالرسالة: ذهب إلى أنهم أهل الفترة، وإذ لم يدركوا زمن الرسالة؛ فنجاتُهم تدورُ على التوحيدِ فقط. أقول: ليس الأمرُ كما قاله الشيخ الأكبر رحمه الله، بل هم الذين عندهم التوحيد والرسالة، وإنما اكتفى بذكر التوحيد، لأن تلك الكلمة صارت شعاراً للإسلام وعُنواناً له، فتضمنت الشهادة بالرسالة واستغنت عن ذكرها صراحة. ثم عندي حديثٌ قويٌ في امتحان أهل الفترة في المحشر، بأنهم يُؤمرونَ أن يلقوا أنفسهم في النار، فمن ائتمر منهم نجا، ومن أبى هلك، وكذا من زعم أنهم الذين عندهم القول بها فقط، أي مع ذهولٍ عن التصديق في الباطن، فقد أخطأ، لأنه لا عبرة به عند الشرع، فالمرادُ من هؤلاء الذين عندهم الإيمان والتصديق بالشهادتين؛ إلا أنه ليس عندهم من العمل والخير شيء، فيخرجون بمجرد بركة كلمة التوحيد ولا عمل، ولا خير، ولا شيء، ونحن نجيبُ المصنف رحمه الله تعالى عن استدلاله: أن الخير زائدٌ على الإيمان، فلم يُثبتُ الزيادةَ والنقصانَ في نفس الإيمان، بل في الخير، وقد مرّ أنه عبارة عن نور الإيمان، وهذا أمر زائدٌ على الإيمان، وإن كان المصنف رحمه الله تعالى يَعُدُّه من الإيمان، إلا أنه ليس مما نحن بصدده، وهو الإيمان الذي تدور عليه النَّجاة، ولما أُخرج من النار من لم يكن عنده عمل ولا خير أيضاً تبين أنّ مدار النجاة هو تلك الكلمة، وهي: الإيمان لا يزيد ولا ينقص. ثم إن النُّكْتَةَ في ذكرِ توحيدهم، وحذفِ شِهادتهم بالرسالة، وانفرادُ أرحمُ الراحمينَ بإخراجهم، أن هؤلأَ ليسوا بمختصين بتلك الأمة؛ بل هم من جميع الأمم، فراعى فيهم جهةَ العبُوديَّة فقط، دون الأممية، فإنها باعتبار الرسل، فحينئذٍ ناسب ذكر التوحيد، فإنه يشترك في الكل، بخلاف الرسالة، فإنها تتبدلُ بحسبِ الأعصار والأزمنة، فلذا ذكرَ الكلمةَ المتقرِّرة، وهي كلمة التوحيد، وحذفَ المتبدِّلة، وهي الشهادة بالرسالة. ثم هذا كله إذا كان حديثُ أبي سعيد رضي الله عنه، وأنس رضي الله عنه، متعدداً وأما إذا كان واحداً، فينبغي أن يستحصلَ مرادُهما بعد جمعِ الطرقِ، ورعاية الألفاظ، وحينئذٍ وجهُ التغايرُ في التراجم عدمُ تعيين اللفظ عنده. وقد تحقق عندي أنه إذا لم يُبْد عنده ترجيح بين ألفاظ الحديث، يترجم على كلِ واحدٍ منها ترجمةً مناسبةً له، كما فعل في قوله صلى الله عليه وسلّم «إذا أمَّن الإمام فأمنُوا» وفي لفظ: «إذا أمّن القارىء» فالحديث واحد، فأخرج الأولَ في الصلاة: لأن لفظ «الإمام» يناسبُها، ووضع ترجمة مناسبة. وأخرج الثاني في الدعوات، فإن القراءةَ لا تنحصر في الصلاة، بل تكون خارجَها أيضاً. والذي عندي أن تُدَارَ المسألة على القدر المشترك، ولا ينبغي أخذها عن خصوصِ لفظ، فإنه لا يتعينُ أنه لفظُ صاحب الشريعة أو لفظ الراوي، والله أعلم. حكمةٌ بالغة واعلم أن كلمةَ الإخلاص، لاستئصال الإشراك في العبادة، دون الإشراك في الذات، وعليه تُبنى دعوةُ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لأن منكري الربوبية أو المشركين في الذات كانوا أقل قليل، فلم يريدُوا بتلك الكلمة إلا الردَّ على الذين كانوا يشركون في العبادة، كما حَكى اللَّهُ تعالى عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: 3) يعني أن الله سبحانه واحدٌ، وهؤء مقرِّبون إليه، والعياذ بالله. وقال تعالى: {فإذا رَكِبوا في الفلك دَعَوُوا ا مخلصينَ له الدين} (العنكبوت: 65) وقال تعالى: {إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} (الصافات) ولم يقل: يجحدون، فعلم أنهم لم يكونوا منكرين لتلك الكلمة رأساً، لأن الاستكبار بعد العلم، وقد مر أن أول من بعث لدحض الكفر هو نوح عليه الصَّلاة والسَّلام، وقبله لم يكن إلا الإيمان فقط، ثم جاء إبراهيمُ عليه الصَّلاة والسَّلام وقابل مع قوم نمروذ، وكانوا يشركون في العبادة، فردّ عليهم بأبلغَ وجه وأتمَّ تفصيل. وعلى هذا فالملةُ الإبراهيمية هي استئصال الإشراك في العبادة. بقي موسى وعيسى عليهما الصَّلاة والسَّلام فلم يكونوا بعُثوا في مُقابلةِ الكفر، بل إلى بني إسرائيل، وكانوا مسلمين باعتبار قومهم، لأنهم كانوا من أولادِ يعقوب عليه الصَّلاة والسَّلام، ثم جاء بعدهم كلهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلّم وقد انمحت آثار الأنبياء، واندرست تلك الكلمة، وانقطعت عن أصلها وفرعها، حتى لم يكن يعرفُها أحدىٌ. فأحيانها، وأسسها، وأقامها على سُوقِها، ليغيظ بها الكفار، فمن عَرَف تلك الكلمة، أو قالها، فقد قالها مقلداً إياه صلى الله عليه وسلّم لأنه هو الذي أحياها وعلَّمَها الناس، ولذا يقال له: إنه على الملةِ الإبراهيمية، وحينئذٍ القول بتلك الكلمة فقط تضمن الشهادة بالرسالة أيضاً، وعليه فليحمل حديث مسلم: «من قال: لا إله إلا الله دَخَلَ الجنة» ليس معناه ولو بدون الشهادة بالرسالة، بل معناه أن من قال تلك الكلمة مقلِّداً ومقتدياً به صلى الله عليه وسلّم دَخَلَ الجنة، فإنه قد أقر بالرسالة وشهد بها أيضاً، حتى أنهم صرحوا أن أحداً لو قالها بدون تقليده صلى الله عليه وسلّم كسنوح السوانح، لا يكون من الإيمان في شيء، فظهر منه وجه آخر لحذف الشهادة بالرسالة في الحديث. ثم اعلم أن صيغة الشهادة غلبت عليها جهة الإيمان، وليست من عامة الأذكار، بخلاف لا إله إلا الله، فإن فيها جهة كونها ذكراً من الأذكار أيضاً، بخلاف الشهادة بالتوحيد والرسالة، فإنها ليست ذكراً، بل هي إيمان، ولذا إذا تذكر الشهادة بالتوحيد، تضم معها الشهادة بالرسالة أيضاً، فإن الإيمان لا يتم بدونها، وتلك الكلمة بدون لفظ الشهادة قلما يذكر معها الجزء الثاني، لأنه تنتقل ههنا إلى الأذكار ويُراد بها أصحاب هذا الذِّكر، فمعنى قوله صلى الله عليه وسلّم «ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله» أي في أصحاب هذا الذكر، وهم الذين أدوا الشهادتين. ولا تَظُننَّ أن المراد من أصحاب هذا الذكر هم الذين ذُكروا بتلك الكلمة مراراً، فإنهم أصحاب الأعمال، بل أريدُ به أنه صار عنواناً للمسلمين لأجل هذا؛ فَذَكَرَ العُنوانَ المشهورَ وأرادَ المعنونَ المخصوص، وإنما عنونَهم بذلك ليُعلم وجهُ خروجهم من جهنم بدون عمل وخير. وهذا وجه ثالث لحذفِ ذكرِ الشهادة بالرسالة، فدونك رابعاً أيضاً، وهو أن لا إله إلا الله لا تزالُ تَبقى المعاملةُ بها إلى الأبد، لأن الأذكارَ تبقى في الجنة أيضاً، وقد مرّ مني أنّ فيها جهة الذكر أيضاً بخلاف: محمد رسول الله، فإن فيه جهة الإيمان فقط، وليست فيه جهة الذكر، وإنما الذكرُ في حقه صلى الله عليه وسلّم هو الصلاة عليه، لا تلك الكلمة، فالمعاملة مع تلك الكلمة، وهي القول بها تنتهي بانتهاء تلك الحياة وليست معها معاملةٌ بعد انقطاع تلك النشأة، بخلاف كلمةِ التوحيد، فإن معها معاملة في المستقبل أيضاً، ولذا وردت في الحديث تلك الكلمة فقط، دون محمد رسول الله، فإن القول بها مضى في الدنيا، وأما في الجنة فليس هناك إلا الأذكار، وهو ليس منها. 23- (قميصه يجره) هذا من عالم الرؤيا فلا تجري فيه مسألة الإسْبَال. 23- (تأولت) والتأويل عند السلف طلب المآل، وبيان المراد كما في قوله تعالى: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَى} أي مرادها ومصداقها، لا ما أصطَلَحَ عليه المتأخرونُ من صرف الكلام عن الظاهر. 23- (الدين) فإن القميص كما يكون وقايةً للاّبس من الحر والقر والوقاحة، كذلك الدينُ يكونُ حافظاً لعرضِهِ في الدنيا والآخرة.
وقد مر منى أن الحياءَ كالأمانة مقدمةٌ للإيمان عندي، والأمانةُ وصفٌ يعتمدُ بها الناس على حاملها في أنفسهم، وأموالهم، وليست بمعنى الوديعة التي في الفقه، ولذا أنكرت الأرض والسموات عن حملها، حين عرضت عليهن، لأنهنّ لم يكُنَّ بهذه المثابة، ولم يكن حاملة لتلك الأوصاف، وإنما سبق بها الإنسان مع ضَعفه؛ لأنه كان حاملاً لهذه الأوصاف، وبعبارة أخرى: إعطاء كل ذي حق حقه، ووضعُ كل شيء مكانه أمانةٌ، وضِدّها غش، وهو: حطُّ الشيء عن مرتبته، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلّم ما معناه لأنس «يا بُنَيَّ إن قَدَرْتَ أن تُصبحَ وتُمسيَ وليس في قلبك غشٌ لأحد فافعل... إلخ» ثم المصنف رحمه الله يجعل «مِنْ» تبعيضية، ونحن نجعلها ابتدائية كما قررنا.
غرض المصنف رحمه الله: أن تلك الأعمال من الإيمان، فكما أنه لا نجاةَ في الآخرة بدون الأعمال كذلك لا يُكفُّ القتال عنهم في الدنيا إلا بها. قال الإمام الشافعي ومالك رضي الله عنهما: إن تارك الصلاة يقتل حداً لا كفراً. (الفرق بين الحد والتعزير، والكلام في تارك الصلاة) والفرق بين الحد والتعزير، أن الحد لا يمكنُ ردُّه للقاضي أيضاً، فإنه من حقوق الله تعالى، بخلاف التعزيز فإنه مفوض إلى رأيه. وقال أحمد رضي الله عنه: إنه يقتل كفراً، وقال إمامنا الأعظم رضي الله عنه: إنه ليس بكافر، ولا يقتل، ولكنه يُحبس ثلاثاً، فإن عاد إلى الصلاة فبها وإلا يضُرب ضرباً يتفجر منه الدم، نعم، لو قتله الإمام تعزيراً وسع له كما وسع له قتل المبتدع. قلت: وجاز في السرقة للقاضي أن يقطع اليد تعزيراً، وعليه أحملُ ما وقع فيه القطع فيما دون عشرة دراهم، وتمام البحث يجيءُ في السرقة إن شاء الله تعالى. وقد قال لي بعض الفضلاء: إن في تذكرة المخدوم هاشم السندهي إشارة إلى جواز قتل تارك الصلاة عندنا تعزيراً، ولنا عند أبي داود عن أبي مَحَيريزٍ أن رجلاً من بني كِنَانَة يُدعى المَخْدَجِيَّ سَمِعَ رجلاً بالشام يُدعى أبا محمد يقول: إن الوترَ واجبٌ، قال المخدجي: فَرحتُ إلى عُبادة بن الصامت رضي الله عنه فأخبرتُه، فقال عُبادة رضي الله عنه: كذب أبو محمدٍ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: خمسُ صَلَواتٍ كَتبهنَّ اللَّهُ على العباد، فمن جاء بِهنَّ لم يضيِّعْ منهنَّ شيئاً استخفافاً بحقِّهن، كان له عند الله عهداً أن يُدخِله الجنةَ، ومن لم يأت بِهنَّ فليس له عند الله عهدٌ، إن شاء عَذَّبه، وإن شاء أدخَلَه الجنة. انتهى. فلو كان تاركُ الصلاة كافراً لجزم بدخوله النار، ولكنه أبقى أمره تحت المشيئة، فعُلم أنه مسلم فاسق. ونقل فيه مناظرة الإمام الشافعي وأحمد رضي الله عنهما. قال الشافعي لأحمد رضي الله عنه: سمعتك تقول. إن تارك الصلاة كافرٌ، قال: نعم، قال: فما سبيل إسلامه؟ قال: أن يصلى، قال: وهل تُقبل صلاة الكافر؟ فسكت أحمد رضي الله عنه. بقى تواتر السلف بإطلاق الكفر على ترك الصلاة، فالأمر عندي أنه بمعنى كفرٍ دون كفر، لأني لا أعلمُ من حالهم إلا أنهم عاملوا مع أمراء الجور معاملة الفُساق، حتى صلوا على جنائزهم وصلوا خلفهم الفرائض، وتمسك النووي رضي الله عنه بحديث الباب على قتلِ تارك الصلاة. وفيه نظر؛ لأن القتال غير القتل. وفي الحديث ذكر القتال، دون القتل، والقِتَال بمعنى الجِدال، كما في الحديث «أقتالاً يا سعد؟» وما عند الترمذي «فليقاتله» لمن مر بين يدي المصلى، فمن هذا الباب، وكتب النووي رحمه الله تعالى تحته مسائل الدِّية: بأنه لو قتل المارِّ أحدٌ هل يجبُ به الدِّية أم لا؟ فأوهم أن المراد من المقاتلة القتل، وهو غلطٌ، وكان الأولى أن لا يكتب هناك تلك المسائل. فإن الحديثَ لا تعلق له بمسألة القتل، وذكر تلك المسائل يوهم ذلك. ثم عن محمد بن الحسن رحمه الله تعالى أنه يقاتلُ مع قوم تركوا الخِتَان، أو الآذان، وفهِمَ منه بعضهم أن الأذان عنده واجب. قلت: بل القتال إنما هو على تركِ شعار الإسلام والأذان، والخِتَان، من شعارِهِ فمن نَسَبَ إليه وجوب الأذان منا فقد توهمَّ من هذه المسألة، فإذا ثبت عنه جواز القتال من هؤلاء، فمن تارك الصلاة أولى. ثم ههنا مهم: وهو أنه كيف امتنع عمر رضي الله تعالى عنه عن قتال مانعي الزكاة مع هذا الحديث الصريح؟ والحل ما في رسالتي: «إكفار الملحدين» وأوضحته في مواضع، وخلاصته: أن اختلاف الشيخين إنما كان في غرض مانع الزكاة، فجعله عمر رضي الله تعالى عنه بغيهم، وجعله أبو بكر رضي الله تعالى عنه الرِّدة، من حيث إن الإيمانَ اسم لالتزام كل الدين، فمن فرق بين الصلاة والزكاة، فكأنه لم يؤمن بالكل، ومن لم يؤمن بالكل، فهو كافر قطعاً. وهو نظر الحنفية: أن الإيمانَ لا يزيدُ ولا ينقص، لأنه لاتشكيك في الالتزام وقد مر الخلافُ في تحقيق الواقعة، والكشف عنها ولو تحقَّق عند عمر رضي الله تعالى عنه أنهم أنكروا الزكاة رأساً لأكفرَهَم هو أيضاً، ولم يتردد أصلاً، وذكر مثله العلامة الحافظ الزَّيلعي رحمه الله تعالى في «تخريج أحاديث الهداية» من الجزية وفي «المستدرك» عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: لأن أكون سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن ثلاث أحب إليّ من حُمْر النَّعم»، وذكر منها قوماً قالوا: نقرُّ بالزكاة في أموالنا، ولا نؤديها إليك، أيحلُّ قتالهم؟ انتهى مختصراً. وهذا حديث صحيح على شرط الشيخين. فعُلم منه أنهم لم ينكروا الزكاة رأساً، كيف ولو أنكروها عن أصلها لما كان في كفرهم موضعُ رَيبٍ لمن له أدنى علم، فإنها من الضروريات وإنكارُها كفرٌ لا محالة، وإنما زعموا أن الزكاةَ جبايةُ مالٍ، كما يجبي السلطان من الرعايا جبايات من جهات، فكانت إلى النبي صلى الله عليه وسلّم في عهده، وإذا وَلَّيْنا نحن ولاةً منا فقد سقطت، وبقيت كسائر الجبايات على رأى الوالى. ومنصبُ الخلفاء عندي فوق الاجتهاد، وتحت التشريع، من حيث أن صاحب الشريعة أمرنا باقتدائهم مطلقاً. ومن هذا الباب زيادة عثمان رضي الله تعالى عنه في الأذان، وجمعُ عمرَ رضي الله تعالى عنه الناس في التراويح خَلْفَ إمام واحد، فلا يرجع اختلافهم إلى مسائل الأصول. فلا يقال: إن الاختلافَ في الشيخين كان في حكم تعارضُ العموم والخصوص كما قرروا، ولعل الأمر يحوم حول ما قررنا، فافهم واستقم. 25- (إلا بحق الإسلام) كالقصاص وزناً، المحصن، والارتداد.
وبعدُ الشيخ قطب الدين في بيان الغرض حيث قال: إن المصنف رحمه الله تعالى انتقل إلى الرد على المرجئة القائلين بأنه القول بلا إله إلا الله فقط، فقال رداً عليهم: إنه عملٌ وليس بقول فقط. وعندي قد فرغ عنه المصنف رحمه الله تعالى من قبل، وإنما يريد الآن النصَّ على أن الإيمانَ عملُ القلب كما كان نصَّ أولاً على أن المعرفة فعل القلب والعملُ لا يكون إلا اختيارياً، فالإيمان أيضاً فعلٌ اختياري، ووجه الإشارة أنه قصرَ الإيمانَ على العمل، أي أن الإيمان مقصورٌ على كونه عملاً لا يتجاوزَ إلى صفة أخرى، من كونه علماً أو غيره، ولا شك في أنه عملُ القلب، وأما من فسره بالمعرفة، فأراد بها ما تستوجبُ العمل، ولا ما تجامعُ الجحود، كما مرّ ولو كان غرضُ المصنف رحمه الله تعالى ما فَهِمُوه لقال: إن الإيمانَ عملٌ بدون القصر، لأن القصرَ إما قصر قلب أو إفراد ولا يصح واحدٌ منهما؛ لأن المعنى على الأول: أن الإيمانَ عملٌ ليس بقول، وعلى الثاني: أنه عملٌ وليس بمجموع القول والعمل، وكلاهما خلافُ المراد. وأما قصر التعيين فلا يحتملُه المقام. ومنه ظهرت المناسبة بين الآيات، والحديث، والترجمة، فإنها أطلقت العمل على الإيمان، بمعنى أن الإيمانَ من أكبر الأعمال، لا أن قوله تعالى: {بِمَا تَعْمَلُونَ} منحصرٌ في الإيمان، وكذا سُئل النبي صلى الله عليه وسلّم عن الأعمال، وأجاب بالإيمان، فاتَّضَحَ أن الإيمانَ عملٌ.
قالوا: إن هذا الباب كأنه دفع دَخَلٌ مُقدَّر، وهو أنك ادّعيت أن الإسلام والإيمان واحدٌ، مع أن الآيات والأحاديث، تدل على تغايرهما، فأجاب أَن الإسلام على نحوين: الإسلام حقيقة أي شرعاً، وهو المعتبرُ، وهو عينُ الإيمان. والثاني: الإسلام لغةً وهو غيرَ معتبر في الشرع، وهذا الذي أريد في قوله تعالى: {وَلَكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا} لأن الآية عنده في حقِ المنافقين كما صرح به في التفسير، وحينئذٍ لم تكن عندهم حقيقة الإسلام، وإنما جيء في الآية بلفظ الإسلام على معنى الاستسلام، وليس على حقيقتهِ، فدعوى الاتحاد إنما هو في الإيمان والإسلام المعتبر، أما الإسلامُ غير المعتبر، فهو غير الإيمان قطعاً، وفي عقيدة السفاريني: أن الإسلامَ من خوف القتل لا يُعتبر عند البخاري، ولعله أخذه من هذه الترجمة. قلت: وإن كان يتضح منه الدَّخْلُ ودفعه غاية وضوح، فإنه إذا لم يعتبر إسلامَ الخائفِ من القتل، كيف يحكمُ عليه بأن إسلامَه عينُ الإيمان، فلا جَرَمَ يكون مغايراً للإيمان، أما الإسلام الذي هو عينُ الإيمان، فهو ما يكون من طوع ورغبة قلب، بدون خوف، ولكنه كلام باطلٌ، لأنا نجدُ أقواماً أسلموا من خوف القتلِ ثم اعتبر النبي صلى الله عليه وسلّم إسلامَهم، نحو إسلام قوم لم يُحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فقالوا: صبأنا، صبأنا فقتلهم خالد ولم يعتبر إسلامَهم، ولما بلغ خبرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلّم رفع يديه وقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد»، فهذا صريح في أنه اعتبر إسلامهم، وعلى هذا فنِسبةُ هذا الكلام الباطل إلى المصنف رحمه الله تعالى لا يستقيمُ بحال. وعندي: غرضُه من هذه الترجمة الفرقُ بين الإسلام المعتبر، وغير المعتبر، لا دفع الدَّخلَ، وحاصله: أن الإسلام قد يكون حكاية، وإسمياً، ورسمياً، وانتحالاً. بدون استشعار القلب، وهو غير معتبر وغير مُنجي، واستدل عليه بقوله تعالى: {قَالَتِ الاْعْرَابُ ءامَنَّا}... إلخ أي هم يدّعون أ الإسلام رَسَخَ في بواطنهم وليس كذلك، وإنما عندهم اسم الإسلام، والحكاية، بدون المحكي عنه، وهذا غير معتبر وقد يكونُ الإسلام عن جذر قلب وصدق نية لا حكاية فقط، فهو المرضي عند الله تعالى. وهو المنجي حقيقة، كما قال: {إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَمُ} فجعل الإسلامَ ديناً مرضياً، وعلى هذا قوله: على الحقيقة ليس مقابِلاً للمجاز، كما فهموه، بل معناه في نفس الأمر. وإذا لم يكن الإسلامُ على الحقيقة بذلك المعنى، يكون حكائياً واسمياً لا حقيقة له في نفس الأمر. (أو كان على الاستسلام) من السلم أي الصلح، فمعناه الإسلام صلحاً، يعني على طريق المصالحة مجبوراً، وادِّعاءاً فقط دون الواقع، والاستفعالُ فيه بمعنى الإتيان بشيء بدون سماحة نفس، بل عن كُرْه، وسَخَطٍ في الباطن، وهو أيضاً من خواصِّ هذا الباب، لأني أجدُ فيه هذا المعنى في مواضع، وإن لم يذكره علماء التصريف، كما في قوله تعالى: {إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالاْحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَبِ اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآء} (المائدة: 44) أي أنهم لم يحملوا كتاب الله ولم يحفظوه برغبةٍ، وطواعيةِ نفس، ولكنه حمل عليهم حفظه على كره، ولهذا المعنى جيء بالاستحفاظ ههنا، كاستأسر أي عدُّ نفسه أسيراً مجبوراً. يقال: استأسر الرجل إذا أُخِذ في جريرةِ فيسلم إليه نفسه مجبوراً، وكما في قولهم: ولم يدخل في مسألة اتحاد الإيمان والإسلام في تلك الترجمة وإنما تعرض إليها في ترجمة تأتي، وإنما يتبادر دخوله في تلك المسألة من جهة الآية، فإنها تفرق بين الإيمان، والإسلام، والمصنف قائل بالاتحاد، فخيِّلَ أنه توجه فيها إلى جوابه، والظاهر أنه أراد هُهنا بيانَ الفرق بين المعتبر من الإسلام، وغيره فقط، وإنما يتردد النظر في شرح تراجمه، لأنه كثيراً ما يذكر الشرط، ويحذف الجواب من الترجمة، ويُخرِجُ مادته في الحديث المترجم له، فكأن السؤال يكون في الترجمة، والجواب في الحديث، وإذاً يكونُ الحديثُ محتمِلاً للوجوه، يُحدثُ الترددَ، أنه ماذا أراد؟ كما ترى ههنا. (أو الخوف من القتل) واعلم أن فيه أحوالاً: فمن أسلم كَرْها مع السخط في الباطن فهو كافرٌ قطعاً، لأنه ليس عنده سوى اسم الإسلام شيءٌ، وهو الذي أراده البخاري، والثاني: من أسلمَ وكان عنده أن قبولَ الأديان من الجائزات، فلم يختره لكونهِ حقاً في نفسه، بل كاختيار أحد الجائزات، فهذا حَسَنٌ، وهذا أيضاً حسن، فهذا النوعُ أيضاً كافر، وهذا أيضاً يمكن أن يدرجَ في مراده. والثالث: من أسلم كَرْها، ثم رضي به، كأنه عند الخوف من القتل، يَبْعثُ نفسَه أن ترى الإسلامَ حقاً وتعتقده عن صميم قلب، فهذا مؤمنٌ إجماعاً. ومن نسب إلى المصنف عدمُ الاعتبار بإسلامه، نظراً إلى ألفاظ هذه الترجمة فقد بَعُدَ بعداً بعيداً. 27- (مالَكَ عَنْ فلان) قال الحافظ واسمه جُعَيل، وهو صحابي جليل القدر وله منقبة عظيمة. عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لأبي ذر: «كيف ترى جُعَيلاً» قلت: كشكله من الناس- يعني المهاجرين- قال: «فكيف ترى فلاناً؟» قال: قلت: سيد من سادات الناس، قال: «فجعيل خير من ملاء الأرض من فلان». فهذه من منزلة جعيل المذكور. 27 (أرى) واتفق أئمة اللغة على أنه معروفاً بمعنى اليقين، ومجهولاً بمعنى الشك، ولعل الأول مأخوذٌ من الرؤية والثاني من الرأي كما صرح به الشيخ ابن الهمام رحمه الله تعالى في باب الصيام، وههنا مجهولاً أولى؛ لأن الحكمَ بمحضر النبي جزماً إساءةٌ للأدب، وقال قائل: بل الأول متعين للقَسَم، فإنه قال: فوالله إني لأراه مؤمناً، والقسَمُ لا يناسبه الشك. قلت: ويلزمه أن لا يجوز قولهم: والله لأظنه كذا، وهو باطلٌ قطعاً. 27- (أو) وقَرَأه الشيخ العيني رحمه الله تعالى بهمزة الاستفهام، وواو العطف (أو) يعني أتقول كذا وهو مسلمٌ، وقيل: بل هو حرف عطف بسكون الواو (أو) والفرقُ بينهما أنه على الأول يكون الحكمُ بإسلامِهِ، بتاً من جهة صاحب الشريعة، بخلاف الثاني، فليس فيه بتٌ وحكمٌ قطعيٌ على إسلامه، ومعناه: مهلاً ما تقول، لعله يكون مسلماً، ولا يكون مؤمناً. وقال بعضهم: إنها بمعنى الإضراب. أقول: وإنما يفهم منها الإضراب للمقابلة، لا أنه أصل المعنى. ثم إنه طال نزاعهم في قوله تعالى: {أَوْ يَزِيدُونَ} (الصافات: 147) وسنعود إليه إن شاء الله تعالى في موضع آخر. فإن قلت: إذا كان أمر جُعيل ما قد وُصِفَ في الحديث، فلا معنى للشك في إسلامه وإطلاق اسم الإيمان في حقه، قلت: هو كذلك، وإنما منعه إصلاحاً له وتنبيهاً على أنه لا ينبغي المبادرة في مثل تلك الأمور الباطنة التي قد تخفى على الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام أيضاً، سيما بحضرة صاحب الوحي، وإن كان صحيحاً في خصوص هذا الموضع فلو كان صوبه ههناً، ولم يمنعه لأمكن أن يستعمله في موضع آخر أيضاً لا يكون محلاً له، فمنعه مطلقاً سداً للباب، ولم ينظر إلى خصوصِ المقام. فإطلاق أحب الألقاب إلى الله تعالى بدون رؤية وروية هو مورِدُ النكيرِ فقط، وليس المرادُ ذم الصحابي المذكور، فإنه ذو منقبةٍ ومكان، ورتبةٍ عند الله، وعند رسوله، وهذا كما قالت عائشة رضي الله عنها لولد مات: طُوْبَى له عصفورٌ من عصافير الجنةِ قال: مهلاً يا عائشة، وقد كان هذا ولداً لأنصاري، ومعلوم أن أولاد المسلمينَ كلهم في الجنة، وإنما الاختلاف في أولاد المشركين، فهذا أيضاً إصلاح كالقاعدة الكلية، أي الجزمُ بأمور الغيب قبل العلم بها مما لا يُنَاسب مطلقاً، فكيف محضرٍ من صاحب الشريعة وهو أعلم، فينبغي أن يترقب ماذا يُلقى إليه من جانبه، ثم يتلقاه منه، لا أنه يتبادر فيفْتَات عليه، ولذا ترى الصحابة رضي الله تعالى عنهم أكثر ما يجيبونه بقولهم: الله ورسوله أعلم، ويتضح عندك مراده كل الاتضاح مما قيل في الفارسية. خطا اكرراست آيدتاهم خطاست وفي الحديث أيضاً «من فسر القرآن برأيه فأصاب، فقد أخطأ» وغَفَلَ بعضهم عن هذا المعنى فجعل يأولُ في قصة عائشة رضي الله تعالى عنهما، وقال: لعل الولد كان من المشركين، ثم لما مرّ على الروايات ورأى أنه كان ولداً للأنصاري، ركب تأويلاً آخر باطلاً، وقال: إنه كان أنصارياً نسباً وقوماً فقط، وهذا كله كما ترى لعدم البلوغ إلى حقيقة المراد. أما المصنف رحمه الله تعالى فاستشهد بقوله فيه «أو مسلماً» فإنه دالٌ على تغاير بين الإيمان والإسلام في الجملة؛ فإنه نفى عنه اسم المؤمن، مع إثباتِ لقب المسلم، فثبتت الترجمة.
وإفشاؤُه نشرُه سِراً وجهراً على مَنْ تَعْرف ومن لم تعرف. والمصنف رحمه الله تعالى في مثله يتبع ألفاظ الحديث، فإن كان الحديث جعل أمراً «من الإسلام» يترجم المصنف رحمه الله تعالى أيضاً بذلك، وإذا كان جعله «من الإيمان» يتبعه أيضاً، فتارةً يقول: «من الإسلام» وأخرى: «من الإيمان» لهذه النكتة وليس لمجرد التفنن في العبارة. قوله: (الإنصاف من نفسك) يعني عن داعية نفس بلا رياءٍ أو حكم حاكم، وهذا إنصاف صادر من طبعه، وحينئذٍ يكون حرف «من» ابتدائية، والنفس فاعلاً معنى، ويمكن أن يكون معناه إجراءُ الإنصاف في معاملة نفسِهِ أيضاً، وحينئذٍ تكون النفس مفعولاً (للعالم) بالفتح، أي جميع الناس (من الإقتار) أي الافتقار، و «من» بمعنى «في» كما ذكره العيني رحمه الله تعالى، أو بمعنى عند ومع، كما اختاره الحافظ رحمه الله تعالى، فالإنصاف خُلُقٌ، والإنفاقُ يتعلق بحقوق الأموالِ، وإفشاءُ السلامِ أمرٌ بين الأمرين، والإيمانُ مجموعُ الثلاثة.
واعلم: أنّ هذه الترجمة أيضاً من التراجم المشكلة عندي، والجملةُ الأخيرةُ مرفوعٌ أي إعراباً، وإعرابُها حكائي عندي، لأنه قول عَطَاء بن أبي رَبَاح، ونقل نحوه عند ابن كثير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه في تفسير قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفِرُونَ} أي بكفرٍ دون كفر. ولعل الحافظ رحمه الله تعالى لم يُدركه ولذا نسبه إلى عطاء، ولو أدركَهُ لنسبه إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنه، لأن عطاء تلميذ له، ولذا أظنُ أن عطاءَ لعله تعلَّمَه منه؛ فأصله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه فاعلمه. قال الحافظ: «دون» بمعنى أقرب، واختاره. وقيل: بمعنى غير، وجعله مرجوحاً. قلت: والمختارُ عندي ما جعله الحافظ رحمه الله مرجوحاً. ثم إن الحافظ رحمه الله بنى شرحَهُ على شرح القاضي أبي بكر بن العربي، وحاصله راجعٌ إلى تحقيق الحافظ ابن تيمية رحمه الله. ومحصَّلُ تحقيقه: أن الإيمانَ لما كان مركباً أمكن أن يوجدَ في المؤمن بعض أشياء الكفر، وفي الكافر بعض أشياء الإيمان، كالكِبْر فإنه من الكفر وقد يوجدُ في المسلم أيضاً، وكالحياء فإنه من الإيمان وقد يوجد في الكافر أيضاً فالإسلام عَرْضٌ عريضٌ، أعلاه: لا إله إلا الله وأدناه إماطة الأذى عن الطريق، وبينهما مراتبٌ لا تحصى، وكذلك الكفر أيضاً عرضٌ عريض، فكما أن الإيمانَ المنجي ما هو في المرتبةِ الأخيرة، كذلك الكفرُ المهلك أيضاً ما كان في تلك المرتبة. وبين أعلى الكفر، وأدناه مراتبُ لا تحصى. وعلى هذا فالكفرُ اسم للجحودِ والفسوق. وأقرب نظائِرِه كالصحة والمرض، فيوجدُ في الصحيح بعض أشياء المرض، وفي المريض بعضُ أشياء الصحة، ولكن هذا التقرير يناسبُ وظيفة المُحدِّث، والمفسر، أما على طريقِ الفقيهِ والمتكلم، فإنهم لا يبحثون إلا عن النجاة وهي المرتبة الأخيرة، فلا يجتمعُ الإيمان مع الكفر عندهم أصلاً. قلت: كما أن المحدثين والمتكلمين اختلفوا في الحالةِ المتوسطة بين الإيمان والكفر، فأثبتها الأولون، ونفاها الآخرون، كذلك اختلف الأطباء في الصحة والمرض فذهب جالينوس إلى أن هناك ثلاثة أحوال: الصحيح فقط، والمريض فقط، والذي بينهما، وأنكره ابن سينا وثنَّى القِسْمة، فالأعمى عند جالينوس ليس بصحيحٍ من حيث فقدان حاسة البصر، ولا مريضٍ من حيث صحة بقية الأعضاء، وعند ابن سينا هو مريض. ومن هذا التحقيق انحل كثيرٌ من الأحاديث التي أُطلق فيها لفظ الكفر على الكبائر، واستغنى عن التأويلات، كقوله صلى الله عليه وسلّم «من ترك الصلاة فقد كفر».فأول فيه بعضهم أنه ليس حكماً بالكفر، بل معناه أنه قُرْبُ الكفر. قلت: وليس بشيء، لأن الحديث يصفه به في الحالة الراهنة، ويرميه بالكفرِ ولا ينظرُ إلى حالة أخرى، وقال قائل: معناه من ترك الصلاة مستحِلاً، وهو أيضاً من هذا القبيلَ؛ لأنه لا يختص بالصلاة فإنه يكفر باستحلال كل حرام قطعي، وقال آخر: معناه أنه فَعَل فِعْل الكفر، وهذا نافذ، والرابع ما أراده الحافظ ابن تيمية رحمه الله أي فقد كفرَ بكفرٍ دون كفر، فلم يُكْفِرْه بكفر يوجب الخلود، بل بكفرٍ سُلِبَ عنه حُسْنُ الإسلام، وشأنَه بوصمة الكفر، وهذا أحسن من الكل. ومقتضى هذا التحقيق جوازُ إطلاق الكافر على العاصي، لقيام مبدأ الكفر به والأعجب إليَّ: أن يحجزَ عنه إطلاق الكفر وإن صح ظاهراً، فإن فيه مفاسد لا تخفى. وقد سمعت أن نظرَ الحنفية لما كان مقتصراً على المرتبة الأخيرة- وهي التي تليق بوظيفتهم- لم يختاروا ذلك التحقيق كما مر مفصَّلاً. إذا سمعت هذا فاعلم أن الحافظ رحمه الله جعل حاصلَ هذه الترجمة والترجمة الأخرى باب «ظلم دون ظلم» واحداً، وقال: إن المصنف رحمه الله لما أقام المراتب في الإسلام لزمَ منه أن يُقيم المراتب في الكفر أيضاً، وجعل «دون» بمعنى أقرب، ليكون أسهل في الإشارة في إقامة المراتب، فالكفر على هذا نوعٌ واحدٌ، تحته مراتب، بعضها أخف من بعض. أقول: إن هذه الترجمة لا تبتنى على تحقيق الحافظ ابن تيمية رحمه الله وإن كان تحقيقه جيداً، ولكن المصنف رحمه الله فيما أرى لم يُشر إليه، وكذلك «دون» في ترجمته بمعنى غير، على خلاف ما فهمه الحافظ رحمه الله، والوجه عندي أن المصنف رحمه الله استعمل هذا اللفظ في مواضع عديدة ومعناه هناك «غير» قطعاً، منها «باب من خص قوماً دون قوم بالعلم» أي سوّى قوم، وكذا أشار إليه الحديث أيضاً فإنه جعل الكفرَ نوعين، فالأول كفر بالله، والثاني كفران بالعشير، فجعله متغايراً بالمتعلَّقاتِ ولم يقم فيه المراتب كما تقول: تَصَورٌ فقط، وتصور معه حكم، فهذان نوعان للعلم، كذلك الكفر أيضاً نوعان: كفرٌ بالله، وكفران بالعشير، فهو كفرٌ غير كفر، كمغايرة النوع بالنوع. ويمشي على هذا التقدير تقرير القاضي أيضاً، لأن كونَ كفر مغايراً لكفرٍ آخر لا ينافي إقامةُ المراتب، بل هذا أولى مما قالوه، فإن الكفر إنْ جعلناه نوعاً واحداً كما قالوه يلزمُ إثباتُ الأحكام المختلفة لأفراد نوعٍ واحد، وهو مستبعد بخلاف ما إذا جعلناه أنواعاً وغايرنا في أحكام الأنواع، فنوع منه موجبٌ للخلود، ونوع آخر للفسوق، كان على طريقٍ معروف ولم يكن فيه بعد، فلما كان تقريرهُ يمشي على هذا التقدير مع ملاءمته بكلام المصنف رحمه الله تعالى في مواضعَ أخرى، وإيماء الحديث إليه فالحمل إليه أولى، وينجلي الأمر مما في قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآء} (النساء: 48) لأنهم اتفقوا أن «دون» فيها ليست بمعنى أقرب، بل بمعنى غير، فلذا جزمت أن «دون» ههنا بمعنى غير لا بمعنى أقرب، كما شرحوا به، فالمصنف رحمه الله تعالى عندي ليس بصدد بيان تقارب الكفر بالكفر، ولا بشرح الأحاديث التي أُطلق فيها الكفر على المعصية، كما ذهب إليه القاضي بل بصدد بيان التنوع فيه، وتؤيده نُسخة أخرى نقلها الشيخ العيني رحمه الله تعالى: وكفر بعد كفر. وقد كان يخطرُ ببالي أن طريقَ المصنف رحمه الله تعالى جمعُ الآيات المناسبة في ترجمة الباب وههنا لم يتعرض المصنف رحمه الله تعالى إلى قوله تعالى: {الأعرابُ أشدُ كفراً ونِفَاقاً وأجدرُ أن لا يعلمُوا حدودَ ما أنزل ا} (التوبة: 97) مع كونها صريحة في هذا المراد، ثم تبين لي أن المصنف رحمه الله تعالى إنما يريد مراتب الكفر التحتانية، وهذه تدل على الفوقانية وهي الكفر المهلك، ولما كان بين الكفرِ والكفرانِ اشتقاقاً، لم يبال باختلاف الألفاظ واستدل به على مراده، وهذا تقرير على مذاقهم. وأما ما سنح لي فأقول: إن المصنف رحمه الله تعالى لو كان أراد إجراء التوجيه المذكور في الأحاديث، لأخرج تحت هذا الباب حديثاً من الأحاديث التي أطلقَ فيها الكفرُ على المعاصي، أو الكافر على العاصي، ليتوجه ذهنُ الناظر إلى أن هذه الترجمة شرح لمثل هذه الأحاديث، ولكنه لم يشرْ إليه في مقام ولم يخرجْ تحته حديثاً كما وصفنا، بل ذكر أن كفراً يباينُ كفراً آخر، ولم يجعل الكفر شيئاً واحداً وعرضاً عريضاً. فإن قلت: إنه قد أخرج حديثَ كُفْران العشير قلت: الكفران ههنا بالمعنى اللغوي (حق ناشناسى) وهو قد يطلق على أمر لا يكون معصيةً أيضاً، ولو كان أراد الإشارة إليه، فلا أقل من أن يُخرِّج تحته قوله صلى الله عليه وسلّم «وقتاله كفر» ولكنه لم يخرج مثل هذه الأحاديث في باب من أبواب الإيمان، ولم يشر إلى: تأويلها في موضع من المواضع. فإن قلت: إن الحديث قتاله كفر وقد أخرجه في الباب الآتي. قلت: لكنه لم يبوب عليه بكفر دون كفر بل بوب بباب آخر ولم يستفد منه هذا المعنى. والحاصل أنه إذا بوّب بترجمة أمكنت أن تكون إشارةً إلى تحقيق الحافظ ابن تيمية لم يُخرج تحتها حديثاً، أطلق فيه الكفر على المعصية، لتكون إشارة إلى شرحها، وإن أخرجَ حديثاً كذلك لم يترجم عليها بترجمة تكون مُشْعِرة بشرحها، ولو كان أراد التحقيق المذكور لجمع بينهما. ولما حجر في الباب الآتي عن إطلاق الكفر على العاصي إلا بالشرك، وقال: «ويكفر صاحبها» مكان ولا يكفر، وأيضاً لوجب عليه أن يقيدَ قوله: «ولا يكفر صاحبها» بقيد ما، كالكفر بالله ليتم مراده، ولا أخالُ عبارة المصنف رحمه الله تعالى تكون ناقصةً في مثل هذا الموضع، وأيضاً لما ذكر التحذيرَ من الإصرار على التقاتل في باب خوف المؤمن أن يحبط عمله، وخشية أصحابه صلى الله عليه وسلّم على أنفسهم النفاق، لأن حاصل هذه الترجمة أنه ليس بكافر في الحال، ولكنه يُخشى عليه سوء الخاتمة، أعاذنا الله منه وأماتنا على الملة البيضاء المحمدية على صاحبها الصلاة وألف ألف تحية. فهناك تحذيرٌ من الكفر بكفرٍ يُوجب الخروجَ عن الملة، لا حكمٌ بالكفر بكفر دون كفر في الحالة الراهنة، كما سيأتي، وهذا يخالفُ تحقيق الحافظ ابن تيمية فإنه يُجوِّز إطلاقَ الكفر في الحال بكفر دون كفر، فينبغي أن يُلاحظَ في شرح هذا الباب هذان البابان أيضاً، فإن لهما تعلقاً بهذا الباب، وقد علمت: أن الترجمة التالية: ولا يكفر صاحبها يُشعر بعدم اختياره هذا التحقيق، وكذا فيما بعده يدل على التحذير من الكفر المُخْرِجِ عن الملة، وليس فيه تَعرّضاً إلى كفر دون كفر، مع عدم الإشارة إلى هذا التوجيه في باب من أبوابه، فلا يصح عندي إدخال هذا التحقيق في شرح تراجمه. ولعل المصنف رحمه الله تعالى إنما ترجم بكفر دون كفر نظراً إلى خصوصِ ألفاظِ هذا الحديث، ولما كان في الحديث الفعل الواحد مضافاً إلى الله والعشير، صار الكفر مختلفاً، وبوب بكفر دون كفر، ولم يرد التأويلُ في مثل تلك الأحاديث، ومثله يفعلُ المصنف رحمه الله تعالى في أبوابه ويضع التراجم نظراً إلى خصوص الألفاظ أيضاً، والمصنف رحمه الله تعالى لعلو كعبه، ورفعة محله لا يزيد لأجلنا حرفاً، ويتكلم على قدر علمه فيُوجب تحيراً للمحققين واعتراضاً للقاصرين، ولم يؤد أحدٌ حقَ تراجمه إلى يومنا هذا، فهي كًّوحاجي بعد، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمراً. 29- قوله: (أُريت النار) وفي الحديث الآخر: «إن لكل رجل من أهل الجنة امرأتان» فدل على كثرتهن في الجنة، وقد عجز الحافظ عن جوابه. والجوابُ عندي: أن هاتين من الحور العين كما في البخاري عن أبي هريرة: لكل امرىء زوجتان من الحور العين، وأيضاً الأكثرية عند مشاهدته إذ ذاك، ولا تنسحب على مجموع الزمان، والوجه كثرة الغِيبة واللعن فيهن، وكن النِّساء إذ ذاك حديث عهد بالجاهلية، وكثرة الغِيبة واللعن فيهن أمرٌ معلوم، فرآهنَّ أكثر أهل النار، ولهذا لا يلزمُ من ذلك كثرتهن بعد ما أدبهن أدب الإسلام؛ فإنهن يكن أرق قلوباً يتأثرن بالسرعة، فكما كن في الجاهلية أكثر لعناً، صرن في الإسلام أبعد عنه، والله تعالى أعلم. والحافظ رحمه الله تعالى لما ذهل عن هذا اللفظ تحير في الجواب، ولم يأت بما يميز القِشر عن اللباب. 29- قوله: (أُريت النار) وفي الحديث الآخر: «إن لكل رجل من أهل الجنة امرأتان» فدل على كثرتهن في الجنة، وقد عجز الحافظ عن جوابه. والجوابُ عندي: أن هاتين من الحور العين كما في البخاري عن أبي هريرة: لكل امرىء زوجتان من الحور العين، وأيضاً الأكثرية عند مشاهدته إذ ذاك، ولا تنسحب على مجموع الزمان، والوجه كثرة الغِيبة واللعن فيهن، وكن النِّساء إذ ذاك حديث عهد بالجاهلية، وكثرة الغِيبة واللعن فيهن أمرٌ معلوم، فرآهنَّ أكثر أهل النار، ولهذا لا يلزمُ من ذلك كثرتهن بعد ما أدبهن أدب الإسلام؛ فإنهن يكن أرق قلوباً يتأثرن بالسرعة، فكما كن في الجاهلية أكثر لعناً، صرن في الإسلام أبعد عنه، والله تعالى أعلم. والحافظ رحمه الله تعالى لما ذهل عن هذا اللفظ تحير في الجواب، ولم يأت بما يميز القِشر عن اللباب.
والمراد من المعاصي هي الكبائر، أما الصغائر فأمرها هينٌ برحمة الله، فإن الحسناتِ يذهبن السيئات. {ولا يكفر صاحبها} أي عند الجمهور فإنهم قالوا: إن مرتكب الكبيرة ليس بكافر ما دام يكون جازماً بالشهادتين، ومقراً بهما، خلافاً للمعتزلة، فإنهم قالوا: بالمنزلة بين المنزلتين. أقول: قوله: «ولا يكفر صاحبها» على تقدير تحقيقه «كفر دون كفر» مُشْكِل؛ فإن موجبه أن يجوزَ إطلاقُ الكفر ولا يتأخر عنه. والجواب عندي: على تقدير التسليم أن مراده الإيذانُ بعدم إكفار صاحب المعصية من جانبه، والاقتصارُ به على المواضع التي ورد بها الشرع. فأينما حكم القرآنُ والحديثُ على أمر بكونه كفراً جَاز لك إطلاق الكفرِ عليه على طريق: كفر دون كفر، وإلا فلا يُسوَّغُ لك إِطلاق الكفر عليه. وهذا كَحَذْر الشريعة عن اللّعْن، فلا يُسوَّغ لأحدٍ أن يلعن أحداً من عند نفسه. ووجه الإشارة أنه جاء بلفظ المضارع، فمعناه لا يكفر في المستقبل. أما الإطلاقُ الذي مضى من جانب الشرع، فهو ماض، والمنع في المستقبل مخافةَ شيوعه في المحل وغير المحل. وعندي شرحٌ آخر أيضاً: وهو أنه لا يكفر صاحبها، لأن المبتادر من إطلاق الكفر، هو كفر الخلود، فيمنع عن إطلاقِهِ دفعاً لهذا التوهم. وله شرحٌ ثالث أيضاً: وهو يُبنى على ما أخرجه الهيثمي في «الزوائد» عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه عدّ عِدَّة أشياء ثم قال: ويقال بتركه: به كفر، ولا يقال: إنه كافر، ونحوه رأيت عن علي رضي الله تعالى عنه، ولكن في إسناده راوٍ كذاب. وعن الدارمي أيضاً مثله حيث قال: يقال: به كفر، ولا يقال: إنه كافر. قلت: إنه لا يُسمَّى كافراً لأن إطلاقَ اسم الفاعل على من صَدَرَ عنه الفعل مرةً ولم يتكرر، ليس بلطيف في العُرْف، وإن جاز عقلاً. نعم إذا تكرر وصار صفةً له لَطُف إطلاقه. ولذا يقال: إن الفعلَ للواقعة، فمن ضرب مرة يقال: إنه ضرب ولا يقال: فلان ضارب، وفلان سارق وفلان زانٍ، إذا لم يتكرر منه ذلك الفعل. فإن قلت: إن القرآن لم يقل بن كفرٌ بل أطلقَ لفظ الكافر في قوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفِرُونَ} (المائدة: 44) قلت: هذا إطلاق على الطائفة لا على الشخص، وكلامنا في الشخص دون الطائفة، فإنه يجوز أن يقال: لعنةُ الله على الكاذبين، بخلاف لعنة الله عليك، وإن كان كاذباً. ويمكن أن يكونَ المصنفُ رحمه الله تعالى أراد منه بيانَ المسألة فقط. بأنه لا يكفر العاصي، ولم يكن أراد شرحَ الأحاديث التي وَرَدَ فيها إطلاق الكفر على المعاصي، وتأويلها بكفر دون كفر. ويحتمل أن يكونَ أراد من قوله: كفر دون كفر، إفادة التشكيك فيه، وأراد من المعاصي غير ما أطلق عليه الكفر. والمقصودُ أن ما أطلق عليه الكفرُ في الشرع فقد اندرج في باب كِفر دون كفر. وأما المعاصي من غير هذا النوع فلا يُطلق عليه الكفر، ولا يكفر صاحبها لهذا النوع. ولذا أخرج تحت هذا الباب حديث: «إنك امرؤ فيك جاهلية»، ولم يُخرج نحو: «قتاله كفر». وأخرج في الباب الأول حديث: كُفران العشير، لمجيء إطلاق الكفر فيه. فيقال في أمثال تلك المعاصي: فيك جاهلية، ولا يقال: فيك كفر. ومن ارتكب القتل والعياذ بالله يقال له: به كفر، هذا كلُّه على ما شرحوا به. وأما الغرضُ منه على ما قررتُ مرادَه، فالصدع بعدم إطلاق الكفر على المعصية، والتصريح بأنه لم يرد من الباب السابق أن الكفر عرض عريض ولو كان ذهبَ إليه لجوَّز ذلك الإطلاق، فكأنه احتراسٌ منه، وتصريح بعدم إطلاق الكفر من ارتكاب المعصية، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآء} وهذه الآية نصٌ لأهل السنة والجماعة. وتأوَّل فيها الزَّمخشري. والشرك أخصُّ من الكفر، لأنه الكفرُ مع عبادة الغير، فهو أغلظُ أنواعه. فإنكار الرسالة كفرٌ وليس بشركٍ. وإنما ذكرَ فيها الشركَ خاصة والله أعلم، لأن أكثرهم كانوا يشركون في العبادة فوردت الآية ناعية عليهم. وإنما المراد الكفر مطلقاً. ثم استشهد المصنف رحمه الله تعالى من آية أخرى وفيها أيضاً إطلاقُ المؤمن على العاصي، لأن الاقتتال معصية، غير أنه يُوجبُ أن يكونَ اقتتالهم المذكور في الآية كبيرةً، ليثبت إطلاق الكفر عليها، حتى يلزم صحة إطلاق المؤمن على من فيه كفر دون كفر. قلت: إنما أراد المصنف رحمه الله تعالى في هذا الباب إطلاق المؤمن على من فيه جاهلية، ولا ريب في كون الاقتتال من أمور الجاهلية. وحينئذٍ لا حاجة إلى جعل هذا الاقتتال كبيرة. 30- قوله: (وعليه حلة) وفيه مسامحة من الراوي، لأن الحُلة اسم للثوبين من جنس، ولم يكن عليه ثوبان من جنس، لما عند المصنف رحمه الله تعالى في «الأدب» بلفظ: «رأيت عليه بُرْداً» وعلى غلامه بُرْداً. فقلت: لو أخذتَ هذا فلبستَه كانت حُلة ولأبي داود: فقال القوم: يا أبا ذر لو أخذت الذي على غُلامك فجعلته مع الذي عليك لكانت حُلة. ثم أجابه أبو ذرٍ بحكاية القصة التي كانت سبباً لذلك. ولفظُ الحديث وإن اقتضى المواساة دون المساواة، لكنه حَمَلَه على المساواة تشديداً على نفسه. وههنا دقيقة أخرى سنذكرها إن شاء الله تعالى في موضع آخر. 30- (سابيت رجلاً) والرجل هو عَمَّار بن ياسر رضي الله تعالى عنه كان يطعن فيه أن أمه سُمية أمة. والحق أنها لم تكن أمة، بل اتُّخذت أمةً بالقهر. وفي «الفتح» أنه بلال. واعلم أنه قال أرباب التصانيف: إن سبَّ الصحابة رضي الله عنهم فسقٌ. وقال بعضهم: إن سبَّ الشيخين كفر، والمحققُ أن سبَّ الصحابة رضي الله عنهم كلِّهم أو أكثرهم كفرٌ. وسبَّ صحابي واحد أو اثنين فسق، وسب أحدهما الآخر ليس بكفر، فإنه يكون لداعية، لا لمجردِ تبريدِ الغيظِ. بخلاف سبِّ من بعدهم إياهم، فإنه ليس بسبب صحيح، بل لمجرد تبريد الغيظ. قد فإنهم انقطعوا عن الدنيا، ولم يبق لهم معاملة مع الناس، فلا يقعُ مَنْ يقعُ فيهم إلا لأجل الغيظ منهم، ثم إنهم اختلفوا في إكفار الروافض، ولم يكفرهم ابن عابدين رضي الله عنه. وأكفرهم الشاه عبد العزيز رحمه الله تعالى، وقال: إن من لم يكفرهم لم يدر عقائدهم. ثم فصل في المسألة وبه أفتى، والله أعلم. 31- قوله: (لأنصر هذا الرجل) وهو عليٌّ رضي الله عنه. 31- قوله: (القاتل والمقتول في النار) ومع هذا أقول: يمكن أن يكون بينهما فرقاً من جهة مباشرة القتل من جانب، وعدم المباشرة من جانب آخر، وإن كانا في النار. وعَرْضُ هذا الحديثَ في واقعة علي رضي الله عنه، ومعاوية رضي الله عنه في غير محلهخ فإنَّ الحديث فيمن قاتل على الظلم والجَور. وأما عليٌ رضي الله عنه فكان على الحق، وأما معاوية رضي الله عنه فكان أيضاً على الحق عنده. ولذا كان أكثر الصحابة رضي الله عنهم مع علي رضي الله عنه، ولا أعلمُ أحداً من الأنصار تخلّف عنه. غير أن المهاجرين اختلفوا، فتردد بعضهم، وسكت بعضهم، كابن عمر رضي الله عنه، ودخل بعضهم مع معاوية رضي الله عنه. ثم إن العقلَ يكادُ يعجز عن إدراك مما كان في صدورهم من تقوى الله، حيث كان علي رضي الله عنه يقول في ابن عمر رضي الله عنه: لله دره، وكان ابن عمر رضي الله عنه حين وفاته يبكي على تأخرِه عنه، لما تبين له الحق، ولا ينقل عنهما أن يكونَ أحدهُما طعن على الآخر. ولو كان الأمر كما هو الآن لصارا عدوين يغتابُ أحدهما الآخر ويقع فيه والعياذ بالله ثم هذا لا يناقض قوله «السيف محاء للذنوب» وهو أيضاً حديث قوي. لأن موردَه فيما لم يُرِدْ المقتولُ قتلَ صاحبه، بخلاف هذا الحديث. وإذا صح أن السيفَ محاءٌ، أي يمحو الذنوب، ظهر شرح آخر لقوله تعالى: {إني أريدُ أنْ تبوأ بإثمي وإثمكَ فتكونَ من أصحابِ النار} (المائدة: 29) وهو أن المراد من قوله: «أن تبوء بإثمي» مَحْوُه عنه من أجل سيفه. وحاصله: إني أرضى أن تكون من أصحاب النار بإثمك، وينمحي إثمي من سيفك، لأن السيف محاء. فكأنه إذاً انمحى عنه إثمه من سيفه، ومن فعله، فكأنه باء به ورجع بإثمه، وذهب به معه. لا بمعنى أنه طُرِحَ عليه ليخالف قوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: 164) فالقاتلُ حملَ وزرَ نفسِه، ولكنه محى عن المقتول ذنوبَه أيضاً، فكأنه ذهب بذنوبه معه، وإن لم يحملها على نفسه. والحاصل: أن قوله تعالى: {أَن تَبُوء بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ} إنما هو بطريق محو الإثم عن المقتول، لا بحملِهِ على نفسه. وإنما ذكر هكذا في التعبير تهويلاً، والمراد ما قلنا، والقرينة عليه ما بينا أعني حديث المحو. وقد مر بعض الكلام في حديث هِرَقْل تحت قوله: «وعليك إثم اليريسين»، وقد شرحت هناك أن المراد منه: إثم إهلاك اليريسين عليك، أما إثم كفرِهم فعليهم.
والكلام فيه كالكلام في الترجمة السابقة، أي كفرٌ دون كفر. فقال الشارحون: معناه إن في الظلم أيضاً مراتب كالكفر، فدون عندهم بمعنى أقرب. وأقول: معناه إن ظلماً مغايرٌ لظلم، فدون عندي بمعنى «غير». وهذا حديث مرفوع في الخارج. ومن عادة المصنف رحمه الله تعالى أنَّ الحديثَ إذا لم يكنْ على شرطه ويكون مثبتاً لمقصودِهِ يضعه في الترجمة. قوله: (فأنزل الله: {إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان: 13)) ظاهر هذه الرواية أن نزولها على السؤال المذكور ههنا. وفي رواية أخرى في جواب قولهم: «أيّنا لم يَظْلِم» ألا تسمعون إلى قول لقمان: {إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}. وظاهره أن تلك الآية قد كانت نزلت من قبل، وكان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يعلمونها. قال الحافظ رحمه الله تعالى في جوابه: إن الآية نزلت في هذه القصة ثم استشهدَ بها النبي صلى الله عليه وسلّم أيضاً وبه تلتئم الروايتان. ثم إنهم اختلفوا في محصَّل السؤال والجواب: فقال الخطَّابي رحمه الله تعالى: كان الشركُ عند الصحابة أكبرَ من أن يلقَّبَ بالظلم، فحملوا الظلمَ على ما عداه من المعاصي. ولذا قالوا: أَيُّنا لم يَظْلم، وبيَّن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه عامٌّ للكفر وغيره من المعاصي، وإن كان المرادُ منه ههنا كُفْرَ الخلود فقط. وقال الحافظ رحمه الله تعالى: بل إنهم حملوا الظلم على الأعم من الشرك، فما دونه، وخصصه النبي صلى الله عليه وسلّم بالشرك. فحاصلُ جواب النبي صلى الله عليه وسلّم على شرح الخطَّابي تعميمُ الظلم على كُفْر الخلود وغيره، وعلى شرح الحافظ تخصيصهُ به، أي أنكم زعمتم أنه عامٌّ للكفر والمعاصي مع أنه خاص بالظلم الذي ليس بعده ظلم. أقول: ومنشأ شرح الحافظ رحمه الله تعالى ترجمة المصنف رحمه الله تعالى، فإنه عمم الظلْمَ، وجعله ظلماً دون ظلم، ليمكن إطلاقه على الكفر والمعاصي سواءٌ بسواء، وتقام فيه المراتب. فحمل الحافظ رحمه الله الحديث أيضاً على العموم، ليكون ألصق بالترجمة. وعندي ما اختاره الخطَّابي رحمه الله تعالى أظهر، لأنه يُبنى على حمل كلامهم على ما هو المعروفُ بينهم، بخلاف شرح الحافظ رحمه الله تعالى، وذلك لأن المعروفَ في معنى الشرك والكفر عندهم، كان هو لفظَ الكفر والشرك، بخلاف الظلم، فإنه لم يكن عندهم معروفاً في الشرك والكفر، بل في سائر المعاصي. فعلى هذا حَمْلُ الظلم على ما وراء الكفر حَمْلٌ على ما كان المعروف المتعارف عندهم. ويلزم على شرح الحافظ حملُهُ على غير المتعارف عندهم، فإن الظلمَ لم يكن عندهم معروفاً في الكفر، فهو حَمْلٌ على غير المتعارف. أما مناسبتُهُ للترجمةِ، فبأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم لما فَهِمُوا من الظلم غيرَ الشرك، وأطلق النبي صلى الله عليه وسلّم الظلمَ على الشرك أيضاً، ثبت إطلاق الظلم على كفر الخلود وغيره، وثبت منه ترجمة ظلم دون ظلم على هذا التقدير أيضاً. فإن قلتَ: إذا كان الظلمُ مشهوراً عندهم فيما وراء الكفر، والمشهورُ في الشرك والكفر كان لفظاً هما دون الظلم، فمن أين أراد النبي صلى الله عليه وسلّم منه الشرك؟ قلت: إذا كان الله هو المتكلمَ، والرسولُ هو الشارع، فلا سؤال، ولا جواب. وقال قائل: إنه أخذ التنوين للتعظيم، والظلمُ العظيم هو الشِّرك، قال تعالى: {إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}. وقال آخر: إن اللبس يقتضي اتحاد المحل، فإن الشيءَ لا يختلطُ مع شيء آخر عند تغايرِ المحل. ولما كان محلُ الإيمان هو القلب، فلا يختلطُ معه غير الكفر، لأن ما وراءَه من الأفعال محلها الجوارح دون القلب، فلا لبس معها. وحينئذٍ لو كان المرادُ من الظلم غيرَ الكفر من المعاصي، لما صح قوله: {وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَنَهُمْ} (الأنعام: 82). فإن قلت: إن الإيمانَ والكفرَ ضدان، فكيف يتحد محلهما، فلا يحصل اللبس. وأجاب عنه شيخنا الشيخ محمود حسن رحمه الله: أن الكفرَ وإن لم يختلط مع الإيمان حقيقة، إلا أنه يمكن أن يلتبسَ معه في القلب، والالتباس غير الاختلاط، لأن في الاختلاط يكونُ الجمعُ حقيقة، وفي الالتباس لا يكونُ الجمعُ حقيقة، بل توهم الجمع شهبة. ثم رأيت في كلام السُّبْكِي: أن تفسير النبي صلى الله عليه وسلّم بالشرك مأخوذ من قوله: {وَلَمْ يَلْبِسُواْ} كما مرَّ عن شيخنا. وعندي يمكن أن تكون هذه الترجمة مأخوذةً من مجموع قوله تعالى: {ظُلُمَتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} (النور: 40)، والحديث النبوي: «الظلم ظلمات يوم القيامة»، حيث جعلَ الظلمَ في الدنيا ظلمات يوم القيامة، والظلمات تفوق بعضها على بعض، فثبت ظلمٌ دون ظلم. فالمصنف رحمه الله لعله نظر إلى هذه وترجم بظلم دون ظلم، أما الاختلاط واللَّبس، فإنه وإن احتاج إلى اتحادِ المحل، لكنه يكفي له اتحاد الشخص أيضاً. وعلى هذا يصح اختلاط الإِيمان مع المعاصي، مع كونها على الجوارح، والإيمان في القلب. فإن محلَّهما هو ذلك الرجل بعينه، وهو واحد، وإيجادُ تغاير المحل في الشخص الواحد بأنه القلب للإيمان والجوارح، للمعاصي، نظر منطقي، وهو بمعزلٍ عن نظرِ أهل العُرف. ثم اعلم أنه يُعلم من سياق البخاري: «أن قوله: {إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} نزل بعد قوله: {الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَنَهُمْ بِظُلْمٍ}... إلخ، مع أن الأمر على العكس. والجواب: أنه أراد بتلاوته دفعَ الاستبعاد، وتفريجَ همهم، وعبَّره الراوي بالنزول كما تلا أبو بكر رضي الله تعالى عنه قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ}... إلخ (آل عمران: 144) في خطبة بعد وفاته صلى الله عليه وسلّم تسلياً لهم ودفعاً لاستبعادهم، فقال قائل منهم: كأنها نزلت الآن، وانكشف عنهم ما رابهم، فهذا توسّع في البيان لا غيرُ.
لما قدَّم تفاوت المراتب في الكفر عَقِّبَه، بكون النفاق أيضاً كذلك. ولا إشكال فيه على تحقيق الحافظ ابن تيمية رحمه الله، فإنه يمكن أن توجدَ في المؤمن خصائلُ النفاق، بل خصائل الكفر. نعم يشكلُ على الجمهور، فإن هذه الأشياء إذا كانت علامات على النفاق أوجب وجودها سلب اسم الإيمان عمن تحققت فيهم. فأجاب عنه بعضهم بأنها كانت علامات للمنافقين في عهده صلى الله عليه وسلّم خاصّة. وأقول: العلامة غير العلة، فهذه علامات وأمارات للنفاق، وهي تتقدم على وجود الشيء، فيكون النفاقُ سابقاً عليها، وتلك علامات عليه. فمن تحققت فيه هذه، لا يحكم عليه بالنفاق، لأن تحققَ العلامة لا يستلزمُ تحقق المعلَّم عليه، بل يقال: فيه خَصلةٌ من النفاق. ولأن قيامَ المبدأ لا يوجبُ إطلاقَ المشتقِ عند الأدباء، ما لم يعتاد به حتى يصير له كالعَلَم كما مر. وبعضهم قَسم النفاق: إلى عملي واعتقادي كما فعله البيضاوي في «شرح مصابيح السنة». قلتُ: دعه، فإن النفاق أمرٌ واحدٌ، وهو العمل بخلافِ الاعتقاد، أو الاعتقادُ بخلاف العمل. أما الأول فكالمنافقين في زمنه صلى الله عليه وسلّم ، فإنهم كانوا يعملون أعمال المسلمين، مع أن باطنَهم كان مملوأً ظلمةً وكفراً. وأما الثاني فكما ترى اليوم كثيراً من المسلمين، والمعصومُ مَنْ عَصَمَهُ الله. 33- ثم إن قوله: (إذا حدث كذب) يتحقق فيما قال، أو فعل شيئاً في الماضي، فحكى عنه بخلافه. 33- وقوله: (إذا وعد أخلف) يكون في المستقبل. وفيه أن الإخلافَ نوعٌ آخر غيرُ الكذبِ، وإن كان أهل العرف يعدُّونهما واحداً، وإنما كانت هذه علامة على النفاق، لأن الظاهرَ من حالِ المؤمن أن يخبرَ عن الواقع كما هو في نفس الأمر، وهكذا الأليقُ بحاله أن يوفِّى بما وعد، ويظهرَ الحق عند الخصومة، لكنه خالف الظاهر، فإذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر ولم يظهر الحق، فكان كذي الوجهين باطُنه غير ظاهره، فصلحت تلك الصفات، لكونها علائمَ على النفاق. والفرق بين الوعد والعهد: أن الوعد يكون من طرف، والعهد من طرفين، وفي خلف الوعد عندنا، قولان: الأول: أنه مكروهٌ كراهةً تحريم، والثاني: كراهة تنزيه. هكذا نقله النووي رحمه الله تعالى. قلت: بل الأمر عندي أن يُقسَّم على الأحوال: فإن أرادَ الإِخلافَ عند الوَعْد كُرِه تحريماً، وإن أراد الإنجاز ثُم مَنَعه مانعٌ لا يكون مكروهاً. والعهد يقابله الغدر. والفجور معناه أن لا يتمالَكَ نفسَه عند الخصومة، وينزل إلى السِّباب يعني ابني آبى مين نه رهى أوكالى كلوج براتر آوى. 33- قوله: (حتى يدعها) وإنما زادها لأنه إذا تركَ هذه الخصائل، حتى خرج عنها وخرجت عنه، لا يبقى عليه حكمُ النفاق، كما في تمثيل إيمان الزاني، أنه يصيرُ كالظُّلة حين يزني، فإذا فرغ منه رجع إليه. تنبيه 34- قوله: (من كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق) يدل صراحةً على تحقيق الحافظ ابن تيمية من أنه يوجد في المسلم أشياء الكفر.
|